فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (44):

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)}
فيه تسع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} هذا استفهام معناه التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وعن ابن عباس أيضا: كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن جريج كان الأحبار يحضون في طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها! الثانية: في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليلة أسرى بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا».
قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الامام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبى أمامة صدى بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو فيما حكى يحيى بن معين حزور القرشي مولى خالد بن عبد الله بن أسيد وقيل: مولى باهلة وقيل: مولى عبد الرحمن الحضرمي كان يختلف إلى الشام في تجارته. قال يحيى بن معين: هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه». القصب بضم القاف المعى وجمعه أقصاب. والأقتاب: الأمعاء واحدها قتب. ومعنى: «فتندلق»: فتخرج بسرعة. وروينا: «فتنفلق».
قلت: فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وانما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه». أخرجه ابن ماجه في سننه.
الثالثة: اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الامر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الآية.
وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قوما يأمرونا ** بالذي لا يفعلونا

لمجانين وإن هم ** لم يكونوا يصرعونا

وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ** وريح الخطايا من ثيابك تسطع

وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ** بالقول منك وينفع التعليم

وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ** طبيب يداوي والطبيب مريض

قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
الرابعة: قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقوله: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وقال سلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ ** يزهد الناس ولا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا ** أضحى وأمسى بيته المسجد

إن رفض الدنيا فما باله ** يستمنح الناس ويسترفد

والرزق مقسوم على من ترى ** يناله الأبيض والأسود

وقال الحسن لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شي، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شي!.
الخامسة: قوله تعالى: {بِالْبِرِّ} البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم، ومنه قولهم: لا يعرف هرا من بر أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك، وقال الشاعر:
لا هم ربّ إن بكرا دونكا ** يبرّك الناس ويفجرونكا

أراد بقوله يبرك الناس: أي يطيعونك. ويقال: إن البر الفؤاد في قوله:
أكون مكان البر منه ودونه ** وأجعل مالي دونه وأوامره

والبر بضم الباء معروف، وبفتحها الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون. والنسيان بكسر النون يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44]، وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: «نسي آدم فنسيت ذريته». وسيأتي. يقال: رجل نسيان بفتح النون: كثير النسيان للشيء. وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نسيانا بالتحريك، لأن النسيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس: جمع نفس، جمع قلة. والنفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه ** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل في أن النفس الروح قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} [الزمر: 42] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي. وذلك بين في قول بلال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم: «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا». رواهما مالك وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر:
تسيل على حد السيوف نفوسنا ** وليست على غير الظبات تسيل

وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه. والنفس أيضا الجسد قال الشاعر:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا ** أبياتهم تامور نفس المنذر

والتامور أيضا: الدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ} توبيخ عظيم لمن فهم. {وتَتْلُونَ}: تقرءون. {الْكِتابَ}: التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم واصل التلاوة الاتباع ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة بضم التاء: البقية يقال: تليت لي من حقي تلاوة وتليه أي بقيت. وأتليت: أبقيت. وتتليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه قال أبو زيد: تلى الرجل إذا كان بآخر رمق.
الثامنة: قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل: المنع ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ومنه اعتقال البطن واللسان ومنه يقال للحصن: معقل. والعقل. نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج قال علقمة:
عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه ** كأنه من دم الأجواف مدموم

المدموم بالدال المهملة الأحمر وهو المراد هنا. والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره ويقال: هما ضربان من البرود. قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم.
وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل.
التاسعة: اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالإنصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات. ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم: محله الدماغ لان الدماغ محل الحس. وقالت طائفة أخرى محله القلب لان القلب معدن الحياة ومادة الحواس. وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا.
وقيل: إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني. وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو اختيار أبى المعالي في الإرشاد واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فان الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الاعراض مجاز. وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الصبر: الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي امسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشيء حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة.
وقال عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرة ** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

الثانية: أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: {وَاصْبِرُوا} يقال فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10] الثالثة: قوله تعالى: {وَالصَّلاةِ} خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم- وقيل بنت له- وهو في سفر فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومئونة كفاها الله، واجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلي ثم أنصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.
وقال قوم: هي الدعاء على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال 45] لان الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء وقول ثالث قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم.
الرابعة: الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك.
وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد قال الطبري وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الايمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.
الخامسة: وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الانعام 160] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10] وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] وقد قيل: أن المراد بالصابرين في قوله: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصيام لي وأنا أجزى به» فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر. والله أعلم.
السادسة: من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وانما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك وغيره. وجاء في أسمائه الصبور للمبالغة في الحلم عمن عصاه.
السابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: {وَإِنَّها}، فقيل: على الصلاة وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم والصبر هنا: الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع. والمصلى يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} وقيل: عليهما ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وقوله: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} [الجمعة: 11] فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والاهم وقيل: إن الصبر لما كان داخل في الصلاة أعاد عليها كما قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ولم يقل: يرضوهما لان رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الاس ** ود ما لم يعاص كان جنونا

ولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب لان الشعر داخل فيه.
وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب

وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعة ** والصبح والمسي لا فلاح معه

أراد: لغريبان، لا فلاح معهم وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقيل: على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله: {وَاسْتَعِينُوا} وقيل على إجابة محمد عليه السلام لان الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه وقيل على الكعبة لان الامر بالصلاة أنما هو إليها {وكبيرة} معناه ثقيلة شاقة خبر إن ويجوز في غير القرآن: وانه لكبيرة {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.
الثامنة: قوله تعالى: {عَلَى الْخاشِعِينَ} الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع.
وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء هذا هو الأصل قال النابغة:
رماد ككحل العين لأيا أبينه ** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت. وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة: قطعة من الأرض رخوة وفي الحديث: «كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد» وبلدة خاشعة: مغبرة لا منزل بها قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال: أعيمش! تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض أفترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب.
وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} [المؤمنون: 1- 2] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا علو نفاق قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
قلت: هذا هو الخشوع المحمود لان الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الخاشعون هم المؤمنون حقا.